يحاصر السودان بكارثة إنسانية ضخمة رغم امتلاكه نحو خمسة مليارات برميل من احتياطي النفط. وتوضح ناتاشا ليندستادت أنّ جذور الأزمة الراهنة تمتد إلى صراع السلطة بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وهما الشريكان اللذان أطاحا بعمر البشير في 2019 قبل أن يتنازعا على القيادة بدل دعم انتقال مدني للسلطة.
ووفقًا للفوربس، انفجر هذا الصراع بعدما تصاعد الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع التي تضم نحو 100 ألف مقاتل داخل الجيش، وحول مَن يقود القوة الموحدة. وبحلول 15 أبريل 2023 اندلع القتال وأدى إلى نزوح أكثر من 13 مليون شخص، بينما أعلن مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك أنّ المشهد لا يشي بأي تهدئة رغم قبول الدعم السريع بوقف إطلاق نار جديد.
إرث “تحصين الانقلاب”
أسّس البشير خلال عقود حكمه منظومة أمنية معقّدة هدفت إلى منع الانقلابات، وهو ما يصفه الباحثون بـ«تحصين الانقلاب». اعتمدت هذه المنظومة على إنشاء مليشيات موازية للجيش وتجنيد قوات على أسس قبلية لضمان الولاء. وفي 2013 أعاد البشير تنظيم ميليشيات الجنجويد في كيان موحّد عُرف لاحقًا بقوات الدعم السريع، مانحًا حميدتي قوة ونفوذًا جعلاه أحد أركان النظام.
منح البشير أيضًا جهاز الأمن والمخابرات سلطات واسعة، وحوّله إلى قوة عسكرية نظامية ذات معدات وتسليح متقدم. وتُظهر الدراسات أنّ الأنظمة الاستبدادية كثيرًا ما تبني وحدات مسلحة خارج الجيش النظامي بهدف حماية الحاكم لا حماية الدولة. يحصل أفراد هذه المليشيات غالبًا على تدريب أفضل وتسليح أمتن، ما يعزّز ثقتهم وقدرتهم على القمع.
يسهم وجود قوات مسلّحة متعددة الولاءات في تعقيد أي انتقال سياسي بعد سقوط الأنظمة. ويشير تاريخ العراق وليبيا واليمن إلى أنّ تفكيك منظومات المليشيات يصبح شبه مستحيل، وأن استمرارها يخلق فراغًا أمنيًا يبتلع أي محاولة للاستقرار
عودة العنف واتساع دائرة الفظائع
استأنفت قوات الدعم السريع هجماتها في دارفور منذ 2023، بينما يواجه الجيش اتهامات بارتكاب انتهاكات مشابهة. ويدفع المدنيون فاتورة هذا الصراع؛ إذ قُتل ما بين 150 ألفًا و400 ألف شخص خلال عامين، بحسب تقديرات منظمات دولية. وأفادت تقارير بأن نحو ألفي شخص قُتلوا في مدينة الفاشر الشهر الماضي، بينما نقلت الـBBC عن أحد مقاتلي الدعم السريع قوله: «شغلنا هو القتل فقط».
يقود العنف أيضًا إلى انهيار اقتصادي شامل. وتضاعف أسعار الغذاء والوقود، بينما يواجه نصف السكان تقريبًا حالة انعدام حاد في الأمن الغذائي وفق تقارير الأمم المتحدة. وتشير تقديرات المنظمة إلى أنّ بعض المناطق تعيش ظروفًا قريبة من المجاعة، خصوصًا بعد سيطرة الدعم السريع على الفاشر قبل أسابيع.
ورغم إعلان واشنطن والقاهرة والرياض وأبوظبي وقفًا إنسانيًا لإطلاق النار وافق عليه الدعم السريع مطلع نوفمبر، إلا أنّ خبرة العامين الماضيين تكشف أنّ تعهّدات الطرفين تتبخر سريعًا. ورغم حظوتهما بشرعية دولية خلال مرحلة الانتقال، خرق البرهان وحميدتي تعهّداتهما مرارًا بلا محاسبة حقيقية.
مأزق السلام واستحالة الاستقرار دون نزع السلاح
يرى كثير من الباحثين أنّ أي اتفاق سلام سيظل هشًا ما دامت المليشيات التي أنشأها نظام البشير تحتفظ بسلاحها وبنيتها القتالية. تتغذى هذه المجموعات على الولاءات الضيقة، وتتحرك خارج سلطة القانون، وتُظهر استعدادًا عاليًا لاستخدام العنف بما يتجاوز حتى وحدات الجيش النظامية.
وتُظهر تجارب ليبيا والعراق واليمن أنّ بقاء المليشيات في المشهد يخلق دوامة صراع مستمرة، لأن هذه القوى ترتبط بمصالح اقتصادية وسياسية تمنحها حوافز لعرقلة أي تسوية. ويصبح نزع السلاح وتسريح المقاتلين شرطًا أساسيًا لبناء دولة قادرة على إدارة مواردها وحماية مواطنيها.
وفي السودان اليوم يصل عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية إلى 30 مليون شخص، وهو رقم يكشف حجم الانهيار. ويظل مستقبل البلاد مرهونًا بقدرتها على تفكيك المنظومات التي ورثتها من عقود الاستبداد، وبناء مؤسسات أمنية موحدة لا تخضع لزعماء المليشيات بل للدولة نفسها.
يبقى السودان مثالًا صارخًا لكيف يُفجّر «تحصين الانقلاب» الدولة من الداخل حين ينهار النظام القديم، ويترك وراءه سلاحًا منفلتًا ووطنًا يقترب من حافة المجاعة.
https://www.forbes.com/sites/natashalindstaedt/2025/11/10/how-coup-proofing-in-sudan-has-led-to-30-million-in-need-of-humanitarian-aid/

